مِنْ ستِّين سَنَةً فِي أَيَّامِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ وَالْجِهَادُ قَائِمًا عَلَى سَاقِهِ فِي أَيَّامِهِ فِي بِلَادِ الرُّومِ وَالْفِرِنْجِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ مَا كَانَ، لَمْ يَقَعْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فَتْحٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَا عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ، وَطَمِعَ فِي مُعَاوِيَةَ مَلِكُ الروم بعد أن كان قد أخشاه وَأَذَلَّهُ، وَقَهَرَ جُنْدَهُ وَدَحَاهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الرُّومِ اشْتِغَالَ مُعَاوِيَةَ بِحَرْبِ عَلِيٍّ تَدَانَى إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ وَطَمِعَ فِيهِ، فكتب معاوية إليه: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ وَتَرْجِعْ إِلَى بِلَادِكَ يَا لَعِينُ لَأَصْطَلِحَنَّ أَنَا وَابْنُ عَمِّي عَلَيْكَ وَلَأُخْرِجَنَّكَ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِكَ، وَلَأُضَيِّقَنَّ عَلَيْكَ الْأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ وَانْكَفَّ، وَبَعَثَ يَطْلُبُ الْهُدْنَةَ.
ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّحْكِيمِ مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ إِلَى وَقْتِ اصْطِلَاحِهِ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرَّعَايَا عَلَى بَيْعَتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَمْ يَزَلْ مُسْتَقِلًّا بِالْأَمْرِ فِي
هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وَفَاتُهُ، وَالْجِهَادُ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ قَائِمٌ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ عَالِيَةٌ.
وَالْغَنَائِمُ تَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فِي رَاحَةٍ وَعَدْلٍ، وَصَفْحٍ وَعَفْوٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ: سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثلاثاً أَعْطِنِيهِنَّ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تُؤَمِّرُنِي حتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: نَعَمْ! قَالَ وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ: وَذَكَرَ الثَّالِثَةَ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى عَزَّةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِأُخْتِهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، فَقَالَ: " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي " (?) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرْنَا أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَاعْتِذَارَهُمْ عَنْهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُتَّابِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ - الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ - عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس.
قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ فَقُلْتُ: مَا جَاءَ إِلَّا إِلَيَّ، فَاخْتَبَأْتُ عَلَى باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين (?) ، ثمَّ قَالَ " اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ - وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ - قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَقِيلَ: إنَّه يَأْكُلُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ