أَرَادَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَاشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وأن يكون خراج دار أبجرد لَهُ، وَأَنْ لَا يُسَبَّ عَلِيٌّ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَإِذَا فُعِلَ ذَلِكَ نَزَلَ عَنِ الْإِمْرَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَيَحْقِنُ الدِّمَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بيانه وتفصيله، وقد لام الحسين لأخيه الْحَسَنَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ مَعَ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سنذكر دليله قريباً.

وبعث الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَمِيرِ الْمُقَدِّمَةِ قَيْسِ بن سعد أن يسمع ويطيع، فأبى قيس بن سعد مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا، وَاعْتَزَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ ثُمَّ رَاجَعَ الْأَمْرَ فَبَايَعَ معاوية بعد قريب كَمَا سَنَذْكُرُهُ.

ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ مُبَايَعَةَ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ عَامُ الْجَمَاعَةِ، لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ فِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعِينَ - الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَاشِدٍ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ افْتَعَلَ كِتَابًا عَلَى لسان معاوية ليلي إِمْرَةَ الْحَجِّ عَامَئِذٍ، وَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ مَعَهُ كِتَابٌ مِنْ أخيه بِإِمْرَةِ الْحَجِّ، فَتَعَجَّلَ الْمُغِيرَةُ فَوَقَفَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الثَّامِنِ لِيَسْبِقَ عُتْبَةَ إِلَى الْإِمْرَةِ.

وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يُقْبَلُ، وَلَا يُظَنُّ بِالْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا على ذلك ليعلم أنه باطل، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أجلَّ قَدْرًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنْ هَذِهِ نَزْعَةٌ شِيعِيَّةٌ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِمُعَاوِيَةَ بِإِيلِيَاءَ - يَعْنِي لَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ - قَامَ أَهْلُ الشَّامِ فَبَايَعُوا مُعَاوِيَةَ عَلَى إِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عِنْدَهُمْ مُنَازِعٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَقَامَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُمَانِعُوا بِهِ أَهْلَ الشَّامِ فَلَمْ يُتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ وَمَا حَاوَلُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَ

خِذْلَانُهُمْ مِنْ قبل تدبيرهم وَآرَائِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُخَالِفَةِ لِأُمَرَائِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَعَظَّمُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ مُبَايَعَتِهِمُ ابْنَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَيِّدَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَدَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَحُلَمَائِهِمْ وَذَوَى آرَائِهِمْ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشدين الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي دَلَائِلِ النبوة من طريق سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا " (?) وَإِنَّمَا كَمَلَتِ الثَّلَاثُونَ بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بن علي، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ كَمَالُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلَّم تسليما.

وَقَدْ مَدَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَنِيعِهِ هَذَا وَهُوَ تَرْكُهُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةَ، وَرَغْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَحَقْنُهُ دِمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَنَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ وَجَعَلَ الْمُلْكَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى تَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَى أَمِيرٍ واحد.

وهذا المدح قد ذكرناه وَسَنُورِدُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمًا وَجَلَسَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَانِبِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ أخرى ثم قال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015