الملائكة لا يسأمون العبادة، ورب الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَارًا لِلْأَنَامِ وَالْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى مِنْ خَلْقِكَ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَرَبَّ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الْمُحِيطِ بِالْعَالَمِ، وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَادًا وَلِلْخَلْقِ مَتَاعًا، إِنْ أَظَهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَالْفَسَادَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظَهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنِي الشَّهَادَةَ وَجَنِّبْ بَقِيَّةَ أَصْحَابِي مِنَ الْفِتْنَةِ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ، وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ - وَقَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الشَّام عَلَى الْمَوْتِ - فَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي مَوْطِنٍ مَهُولٍ وَأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ أَمِيرُ مَيْمَنَةِ عَلِيٍّ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَيْهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاضْطَرَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ مُعَاوِيَةُ، وقام عبد الله بن بديل خطيباً في الناس يحرضهم على القتال ويحثهم على الصبر والجهاد، وحرض أمير المؤمنين علي الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم، وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى * (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) * [الصف: 4] ثُمَّ قَالَ: قَدِّمُوا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس، فإنه أنكى (?) للسيوف عن الهام، وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق لِلْأَسِنَّةِ (?) ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبُطُ لِلْجَأْشِ وَأَسْكُنُ لِلْقَلْبِ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَأَوْلَى بِالْوَقَارِ، رَايَاتِكُمْ لَا تُمِيلُوهَا وَلَا تُزِيلُوهَا وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بارز في أيَّام صفِّين وَقَاتَلَ وَقَتَلَ خَلْقَا حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أنَّه قَتَلَ خَمْسَمِائَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ
أَنَّ كُرَيْبَ بْنَ الصَّبَّاحِ قَتَلَ أَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز؟ فبرز إليه علي بتجاولا سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ وَدَاعَةَ الْحِمْيَرِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ راود بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ المطاع بن المطلب القيسي فقتله.
فتلا عَلِيٌّ قَوْلُهُ تَعَالَى * (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) * [البقرة: 194] ثُمَّ نَادَى وَيْحَكَ يَا مُعَاوِيَةُ! ابْرُزْ إِلَيَّ وَلَا تفني العرب بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص: اغْتَنِمْهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَثْخَنَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُقْهَرْ قَطُّ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ قَتْلِي لِتُصِيبَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، اذْهَبْ إِلَيْكَ! فَلَيْسَ مِثْلِي يُخْدَعُ.
وَذَكَرُوا أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَوْمًا فَضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ فَأَلْقَاهُ إلى الأرض فبدت سؤته فرجع عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَالَكَ يَا أَمِيرَ المؤمنين رجعت عنه؟ فقال: أتدرون ما هو؟