بِقَسْمِ لُحُومِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ ففرَّقها فَيْرُوزُ فِي أَهْلِ صَنْعَاءَ، ثمَّ أَسْرَعَ اللِّحاق بِهِ، فَإِذَا رَجُلٌ يحرِّضه عَلَى فَيْرُوزَ وَيَسْعَى إِلَيْهِ فِيهِ، واستمع لَهُ فَيْرُوزُ، فَإِذَا الْأَسْوَدُ يَقُولُ: أَنَا قَاتِلُهُ غَدًا وَأَصْحَابِهِ، فَاغْدُ عليَّ بِهِ، ثمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا فَيْرُوزُ، فَقَالَ: مَهْ، فَأَخْبَرَهُ فَيْرُوزُ بِمَا صَنَعَ مِنْ قَسْمِ ذَلِكَ اللَّحم، فَدَخَلَ الْأَسْوَدُ دَارَهُ، وَرَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا سَمِعَ وَبِمَا قَالَ وَقِيلَ لَهُ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ على أن عاودوا الْمَرْأَةَ فِي أَمْرِهِ، فَدَخَلَ أَحَدُهُمْ - وَهُوَ فَيْرُوزُ - إِلَيْهَا فَقَالَتْ: إنَّه لَيْسَ مِنَ الدَّار بَيْتٌ إِلَّا وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ بِهِ، غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فإنَّ ظَهْرَهُ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الطَّريق، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ مِنْ دُونِ الحرس، وليس من دون قتله شئ، وَإِنِّي سَأَضَعُ فِي الْبَيْتِ سِرَاجًا وَسِلَاحًا، فلمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا تلقَّاه الْأَسْوَدُ فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْخَلَكَ عَلَى أَهْلِي؟ وَوَجَأَ رَأْسَهُ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ شَدِيدًا، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْهَشَتْهُ عَنْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ، وَقَالَتِ: ابْنُ عمِّي جَاءَنِي زَائِرًا، فَقَالَ: اسْكُتِي لَا أَبَا لَكَ، قَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ، فَخَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: النَّجاء النَّجاء، وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَحَارُوا مَاذَا يَصْنَعُونَ؟ فَبَعَثَتِ الْمَرْأَةُ إِلَيْهِمْ تَقُولُ لَهُمْ: لَا تَنْثَنُوا عمَّا كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَيْرُوزُ الدَّيلميّ فَاسْتَثْبَتَ مِنْهَا الْخَبَرَ، وَدَخَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَنَقَبُوا مِنْ دَاخِلِهِ بَطَائِنَ لِيَهُونَ عَلَيْهِمُ النَّقب مِنْ خَارِجٍ، ثمَّ جَلَسَ عِنْدَهَا جَهْرَةً كالزَّائر، فَدَخَلَ الْأَسْوَدُ فَقَالَ: وَمَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: إنَّه أَخِي مَنِ الرَّضاعة، وَهُوَ ابْنُ عمِّي، فَنَهَرَهُ وَأَخْرَجَهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ نَقَبُوا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَدَخَلُوا فَوَجَدُوا فِيهِ سِرَاجًا تَحْتَ جَفْنَةٍ فتقدَّم إِلَيْهِ فَيْرُوزُ الدَّيلميّ وَالْأَسْوَدُ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشٍ مِنْ حَرِيرٍ، قَدْ غَرِقَ رَأْسُهُ فِي جَسَدِهِ، وَهُوَ سَكْرَانُ يَغُطُّ، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ عِنْدَهُ، فلمَّا قَامَ فَيْرُوزُ عَلَى الْبَابِ أَجْلَسَهُ شيطانه وتكلَّم على لسانه - وهو مع ذلك يغطّ - فقال: مالي ومالك يا فيروز؟ فخشي إن رجع يَهْلِكَ وَتَهْلِكَ الْمَرْأَةُ، فَعَاجَلَهُ وَخَالَطَهُ وَهُوَ مِثْلُ الجمل فأخذ رأسه فَدَقَّ عُنُقَهُ وَوَضَعَ رُكْبَتَيْهِ فِي ظَهْرِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، ثمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ إِلَى أَصْحَابِهِ لِيُخْبِرَهُمْ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِذَيْلِهِ وَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْ حرمتك.
فظنَّت أنَّها لم تقتله، فَقَالَ: أَخْرُجُ لِأُعْلِمَهُمْ بِقَتْلِهِ،
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَحْتَزُّوا رَأْسَهُ، فحرَّكه شَيْطَانُهُ فَاضْطَرَبَ، فَلَمْ يَضْبُطُوا أَمْرَهُ حَتَّى جَلَسَ اثْنَانِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِشِعْرِهِ، وَجَعَلَ يُبَرْبِرُ بِلِسَانِهِ فاحتزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ، فَخَارَ كأشدِّ خُوَارِ ثَوْرٍ سُمِعَ قَطُّ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ إِلَى الْمَقْصُورَةِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا مَا هَذَا؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: النَّبيّ يُوحَى إِلَيْهِ، فَرَجَعُوا، وَجَلَسَ قَيْسٌ وَدَاذَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ يَأْتَمِرُونَ كَيْفَ يُعْلِمُونَ أَشْيَاعَهُمْ، فاتَّفقوا عَلَى أنَّه إِذَا كَانَ الصَّباح يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فلمَّا كَانَ الصَّباح قَامَ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ قَيْسٌ عَلَى سُورِ الْحِصْنِ فَنَادَى بِشِعَارِهِمْ، فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ حَوْلَ الْحِصْنِ، فَنَادَى قَيْسٌ وَيُقَالُ: وَبَرُ بْنُ يحنش، الأذان: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ، وأنَّ عَبْهَلَةَ كذَّاب، وَأَلْقَى إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَتَبِعَهُمُ النَّاس يَأْخُذُونَهُمْ وَيَرْصُدُونَهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ يَأْسِرُونَهُمْ، وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ، وَتَرَاجَعَ نوَّاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إِلَى أعمالهم وتنارع أُولَئِكَ الثَّلاثة فِي الْإِمَارَةَ، ثمَّ اتَّفقوا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يصلِّي بالنَّاس، وَكَتَبُوا بِالْخَبَرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْخَبَرِ مِنْ