إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 34 - 41] .
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنِ الْعَزِيزِ وَامْرَأَتِهِ أَنَّهُمْ بَدَا لهم أي ظهر لهم من الرأي بعدما عَلِمُوا بَرَاءَةَ يُوسُفَ أَنْ يَسْجُنُوهُ إِلَى وَقْتٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ لِكَلَامِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ وَأَخْمَدَ لِأَمْرِهَا وَلِيُظْهِرُوا أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَسُجِنَ بِسَبَبِهَا فَسَجَنُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
وَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ * وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَصَمَهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ لَهُ عَنْ معاشرتهم.
ومخالطتهم * ومن ههنا اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ.
قَالَ الله (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) قِيلَ كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ وَاسْمُهُ فِيمَا قِيلَ " بَنُو " (?) .
وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ يَعْنِي الَّذِي يَلِي طَعَامَهُ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ التُّرْكُ " الْجَاشَنْكِيرُ " وَاسْمُهُ فِيمَا قِيلَ " مَجْلَثُ " (?) كَانَ الْمَلِكُ قَدِ اتَّهَمَهُمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فَسَجَنَهُمَا * فَلَمَّا رَأَيَا يُوسُفَ فِي السِّجْنِ أَعْجَبَهُمَا سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ وَدَلُّهُ وَطَرِيقَتُهُ وَقَوْلُهُ وَفِعْلُهُ وَكَثْرَةُ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ وَإِحْسَانُهُ إِلَى خَلْقِهِ فَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُؤْيَا تُنَاسِبُهُ * قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ رَأَيَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ * أَمَّا السَّاقِي فَرَأَى كَأَنَّ ثَلَاثَ قُضْبَانٍ من حبلة وقد أَوْرَقَتْ وَأَيْنَعَتْ عَنَاقِيدُ الْعِنَبِ فَأَخَذَهَا فَاعْتَصَرَهَا فِي كَأْسِ الْمَلِكِ وَسَقَاهُ، وَرَأَى الْخَبَّازُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ سِلَالٍ مِنْ خُبْزٍ وَضَوَارِي الطُّيُورِ تَأْكُلُ مِنَ السَّلِّ الْأَعْلَى فَقَصَّاهَا عَلَيْهِ وَطَلَبَا مِنْهُ أَنْ يَعْبُرَهُمَا لَهُمَا وَقَالَا (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها وَ (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) * قِيلَ مَعْنَاهُ مَهْمَا رَأَيْتُمَا مِنْ حُلْمٍ فَإِنِّي أعبره لكم قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَمَا أَقُولُ * وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِنِّي أُخْبِرُكُمَا بِمَا يَأْتِيكُمَا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ مَجِيئِهِ حُلْوًا أَوْ حَامِضًا كَمَا قَالَ عِيسَى (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران: 49] وَقَالَ لَهُمَا إِنَّ هَذَا مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ لِأَنِّي مُؤْمِنٌ بِهِ مُوَحِّدٌ لَهُ مُتَّبِعٌ مِلَّةَ آبَائِي الْكِرَامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ من شئ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله علينا) أي بأن هدانا لهذا (وَعَلَى النَّاسِ) أَيْ بِأَنْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَنُرْشِدَهُمْ وَنَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي فِطَرِهِمْ مَرْكُوزٌ وَفِي جِبِلَّتِهِمْ مَغْرُوزٌ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) * ثمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَذَمَّ عِبَادَةَ مَا سوى الله عزوجل وصغر أمر الأوثان وحقرها وضعف أمرها.
فقال (يا صاحبي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [يوسف: 39 - 40] أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يشاء (أمر أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وحده لا شريك له و (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ الْمُسْتَقِيمُ وَالصِّرَاطُ الْقَوِيمُ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ مَعَ وُضُوحِهِ وَظُهُورِهِ وَكَانَتْ دَعْوَتُهُ لَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ لِأَنَّ نُفُوسَهُمَا مُعَظِّمَةٌ لَهُ منبعثة على تلقي ما يقول