جليّة في كتابه، إذ إن الجاحظ تجرّد من ذاته، وترك البخلاء أنفسهم يتحدثون عن قضاياهم، دون أن يدخل نفسه شريكا أو موجها في الصورة، أو في الموضوع.
ولم تجر أقاصيصه على وتيرة واحدة؛ بل كانت كل منها تطغى على الأخرى من حيث النكهة والموضوع والأسلوب. ويقيننا أن أسلوبه الصامت هذا، كان من الأساليب التي أدّت إلى نجاح نوادره وتحليل نفسيات بخلائه.
لقد رسم أبو عثمان بخلاءه بريشته الماهرة الساخرة التي يصعب على المتقدمين والمتأخرين استعمالها، أو إجادة التصوير بها، لأنها ريشة متميزة لها خصائصها الأسلوبية والذوقية والنفسية التي طبعت أدب الجاحظ بطابع خاص متفرّد.
كان الجاحظ في كتاب «البخلاء» فنانا بطبعه اعتمد لونا أساسيا، وهو الذات البشرية. فغاص الى أعماقها، يستنبط ما في جوانبها من عقد وغرابة وغموض. فهو لم يقص حكاياته لإثارة تلك الغرابة، وإنما للدلالة على تلك المواقف النفسية والتعقيدات التي كان يعانيها البخلاء في عصره.
وبالإضافة الى ذلك، فإننا لا نغفل الأسلوب المسرحي الذي تحقق له في كل نادرة، وخاصة في أقصوصة «مريم الصنّاع» و «شيخ النخالة» و «معّاذة العنبرية» ، فإننا وبحق نجد أنفسنا أمام خشبة مسرح تقوم عليها هذه الشخصيات وتنهض وتتحرك كأنها من لحم ودم.
ومما ينبغي أن نقوله في كتاب «البخلاء» إن صاحبه لم يصل من خلاله إلى غاية واحدة، بل بلغ به غايات أخرى أكثر شمولية وإحاطة بدراسة الفرد والمجتمع والإنسان.
فإذا كان كتاب «البخلاء» قمة في النقد الإجتماعي والأخلاقي، وصورة ترسم حقيقة طبقة معينة، فإن كتب الجاحظ كلها توازي قمة «البخلاء» شموخا.
ولهذا قال ابن العميد: «كتب الجاحظ تعلم العقل أولا، والأدب ثانيا» .