ولم يمض وقت طويل حتى إذا أحس باكتمال القوى، قصد بغداد، وأقام فيها. وهناك بزغ فجر الجاحظ، وأخذ يتألّق، واضعا كتبه الأولى منسوبة إلى عبد الله بن المقفّع، وسهل بن هارون، ليقرأها الناس وتشيع بينهم. فأصبح اسم الجاحظ يتردّد على كل شفة ولسان. وكثر الحاسدون، فأرادوا تقليد أسلوب الجاحظ، والإنتقاص منه، إلّا أنّهم لم يفوزوا.
وقرأ له الخليفة المأمون بعض كتبه في الإمامة، فأعجب بها، وقدم إليه أبو عثمان كتاب «العباسيّة» فنال ثوابه. وما كان من الخليفة المأمون إلّا أن أسند إليه ديوان الكتّاب، الذي لم يطل الإقامة فيه، وبعد ثلاثة أيام طلب الجاحظ من الخليفة إعفاءه من هذه المسؤولية التي تحتّم على صاحبها طبعا رصينا، ومسلكية صارمة لا تتلاءم ومزاج الجاحظ وطبائعه. وتوطّدت روابطه بكبار رجال عصره، فاتصل الجاحظ بمحمد بن عبد الملك الزيّات وزير المعتصم، وكتب له ومدحه، وأهداه كتاب «الحيوان» فأجازه الوزير بخمسة آلاف دينار، ثم أغدق عليه مالا كثيرا جعله يقوم برحلات عديدة إلى دمشق وأنطاكيا ومصر ...
ولما صارت الخلافة الى المتوكل، نكب الوزير ابن الزيات بيد القاضي محمد بن أبي دؤاد، فهرب الجاحظ، ثم أعيد الى القاضي مقّيدا، مغلول العنق، معتذرا عن فراره، وقد أبدى إبن أبي دؤاد إعجابه به، فقال «أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه» . وقدم إليه الجاحظ كتابه «البيان والتبيين» ، بعد أن انقطع إليه عاما كاملا. وتدرّجت إتصالاته حتى بلغت الفتح بن خاقان، فقدم له بعض كتبه. وجعله المتوكل مؤدبا لأولاده. ولما رأى بشاعته صرفه. وقد حدّث الجاحظ في ذلك عن نفسه، فقال: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني» .
واتصل أبو عثمان أيضا بإبراهيم بن العبّاس الصولي، وقد أهدى