فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة، ومضى بهم إلى بدر، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول صلّى الله عليه وسلّم بوادي ذَفِران، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين: إما العيرُ وإما قُرَيْش، فاستشار فيه أصحابه، فقال بعضهم: ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له، وردد عليهم وقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال: انظرُ فى أمرك، وامض، فو الله لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلَفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال: امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببتَ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (?) ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ، يريدُ الأنصار لأنهم كانوا عددهم، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال: لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله؟ فقال: أجَلْ، فقال: قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ، فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أردت، فو الذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكرَهُ أن تَلقِي بِنَا عَدُوِّنَا، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ، فنشطه قوله، ثم قال: «سيروا على بَركَةِ الله، وأبْشِرُوا فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ، واللهِ لكأنّي أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم» .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر، فَبُني له هناك عريش، فجلس فيه هو وأبو بكر، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها، ونزلت الملائكة في العنان، أي: السماء، فقتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما فرغ من غزوة بدر، قيل له: عليك بالعير، فقال العباس- وهو فى وثاقه: لا يصلح، فقيل له: لم؟
فقال له: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله، ثم رجع صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً، وقد أنجزه الله ما وعده.
الإشارة: من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر، والهناء والسرور، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس، وما تحقق سير السائرين إلا