سبق له الخذلان، فلم يكن له إيمان ولا إيقان، فلا هداية له ولا نجاح، ولا نجاة له ولا فلاح، نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
الإشارة: قلت: كأن الآية الأولى في الواصلين، والثانية في السائرين، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم، وهؤلاء وصفهم بالتصديق في قلوبهم، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون.
فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان. أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها، واستنشقوا شيئاً من روائح أسرارها وعلومها، فهم يوقنون بوجود الحقيقة، عالمون برسوم الطريقة، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية. دون الفرقة الثالثة التي هى بالإنكار موسومة، ومن نيل العناية محرومة، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
قلت: (سواء) خبر مقدم، و (أنذرتهم) مبتدأ لسبك همزة التسوية، أي: الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة، والجملة خبر إن، و (غشاوة) مبتدأ، والجار قبله خبره، والغشاوة: ما يغشى الشيء ويغطيه، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان.
يقول الحق جلّ جلاله: يا محمد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل إليك جهراً، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار، ولا البشارة والتذكار، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء، فالتذكير في حقهم عناء، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي.
وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. فما ظلمتُهم لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتى اقتضت الإنذار، وقدرتي اقتضت