ولما قرر أمر النبوة، وبيّن الطريق الموصل إلى العلم بها، وأوعد من أنكرها، خاطب الناس بالدعوة إليها فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
قلت: (فآمنوا خيرًا لكم) ، و (انتهوا خيرًا لكم) : قال سيبويه: هو منصوب بفعل مضمر، تقديره: وائتوا خيرًا لكم، وقال الخليل: منصوب بآمنوا وبانتهوا على المعنى. أي: اقصدوا. وقال الفراء: صفة لمصدر، أي: آمنوا إيمانًا خيرًا لكم. وقال بعض الكوفيين: هو خبر كان المحذوفة، وتقديره: ليكن الإيمان خيرًا لكم.
قلت: وهو أظهر من جهة المعنى، وإن منعه البصريون، قالوا: لأنَّ (كان) لا تحذف مع اسمها إلا في مواضع مخصوصة، قال ابن مالك:
ويحذوفونها ويُبقُون الخبَر ... وبَعدَ إن، ولو، كثِيرًا ذا اشتَهر
ولعل هذا الموضع أتى على غير المشهور تنبيهًا على الجواز.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فَآمِنُوا به يكن خَيْراً لَكُمْ مما أنتم فيه من الضلال، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما تركبتا منه، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فهو غني عنكم، لا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بإيمانكم، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوالكم، حَكِيماً فيما دبر لكم.
الإشارة: الذي جاء به الرسول- عليه الصلاة والسلام- هو إتقان مقام الإسلام، وتصحيح مقام الإيمان، الذي من أركانه: الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وتحقيق مقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان، ولا يكمل هذا إلا بصحبة أهل العرفان، الذين صححوا مقام الفناء، وخرجوا إلى البقاء، خاضوا بحار التوحيد، وانفردوا بأسرار التفريد، ورسخ فيهم مقام الرضى والتسليم، فتلقوا المقادير كلها بقلب سليم، فمن لم يصحبهم ويتأدب بآدابهم بقي إيمانه ناقصًا، وحقه العتاب، فكأن الحق- تعالى- يقول على لسان الإشارة: قد جاءكم وليي، وهو خليفة رسولي، فآمنوا بخصوصيته، وأذعنوا لأمره وتربيته، يكن خيرًا لكم مما أنتم فيه من المساوئ والأمراض، لئلا تلقوني بقلب سقيم، وبالله التوفيق.