وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كَلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ ... قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه
فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر، ومَن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء، وفي أمثاله قال القائل:
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ ... لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ
حققنا الله بمقامهم، وسقانا من منالهم، آمين.
وقوله: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول- عليه الصلاة والسلام «1» . وقوله: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي: كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما أجابهم به، فقال:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
قلت: (استجاب) : أخص من أجاب، لأن استجاب مُستلزم لفعل ما طلب منه، وأجاب يصدق بالوعد، ويتعدى بنفسه وباللام، و (بعضكم من بعض) : جملة معترضة. قاله البيضاوي فانظره.
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فيما طلبوه لأنه لا يرد السؤال، ولا تخيب لديه الآمال، ولذلك قال: أَنِّي أي: بسبب أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى لأنكم بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، ولأنهما من أصل واحد، ولفرط الاتصال والاتحاد والاتفاق في الدين.