ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر، لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ ! أو: بالرسول صلى الله عليه وسلم: أي: فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع؟
{أليس اللهُ بأحكم الحاكمين} وعيد للكفار، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله، وهو من الحُكم والقضاء، أي: أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك. وقيل: مِن الحِكمة، بمعنى الإتقان، أي: أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: " بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ". الإشارة: حاصل ما ذكره القشيري: أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء، لغاية شرفها؛ الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية، والثانية: شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها، وإليه الإشاره بقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] الخ. والثالثة: شجرة السر، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة. والرابعة: البلد الأمين، الذي هو حال التلبيس والخفاء، بعد التمكين، وهو الرجوع للأسباب، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية، وهو مقام الكملة. والمقسَم عليه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم} قال القشيري: أي: في المظهر الأكمل والأتم، والمحل الأعم، حامل الأمانة الإلهية، وصاحب الصورة الرحمانية، روحانيته أُم الروحانيات، وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها، ونشأته أوسع النشآت وأشملها. هـ. قلت: وإليه أشار الششتري بقوله:
وفيك يطوى ما انتشر من الأواني
وقول الشاعر:
يا تَائهاً في مهمهٍ عَنْ سِرِّه
انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوجودَ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً
يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بأسره
وقال في لطائف المنن، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي: قرأتُ ليلة {والتين والزيتون} إلى أن انتهيت إلى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين} ففكرتُ في معنى الآية، فكشف لي عن اللوح المحفوظ، فإذا فيه مكتوب: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم روحاً وعقلاً، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى. هـ. فقوله تعالى: {إلاّ الذين آمنوا..} الخ؛ هم أهل الروح والعقل، الباقون في حسن التقويم، وغيرهم أهل النفس والهوى، والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.