يقول الحق جلّ جلاله: {لا أُقسم بهذا البلد} ؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ. واعترض بين القسم وجوابه بقوله: {وأنت حِلّ بهذا البلد} ، أي: وأنت حالّ ساكن به، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به، أو: وأنت حِل، أي: تُستحل حرمتُكَ، ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر، ولا قطع شجر، وعلى هذا قيل: " لا أٌقسم " نفي، أي: لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية، وهذا ضعيف، أو: وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا البلد حرام، حرّمه اللهُ يومَ خَلَقَ السموات والأرض، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ "، يعني: فتح مكة، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ: السورة مكية، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ: هو وعد بالفتح وبشارة. انظر ابن جزي. وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة، كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] وقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيا إِسْرَائِيلَ عَلَىا مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] وغير ذلك.