حال كون الحقّ تعالى قائِماً بِالْقِسْطِ أي: مُدبراً لأمر خلقه بالعدل، فيما حكم وأبرم، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، كرر الشهادة للتأكيد، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد، والحكم به، بعد إقامته الدليل. عليه وقال جعفر الصادق:
(الأُولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم) . أي: قولوا: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، أو ليرتب عليه قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدَّم «العزيز» ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أي: إن الدين المرضى عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به. ورُوِيَ عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأَ هذه الآيةَ عند منامه خَلَقَ اللَّهَ تعالى سبعين ألف خَلْقٍ يستغفرون الله له إلى يوم القيامة» «1» . وهي أعظم شهادة في كتاب الله، «من قرأها إلى (الحكيم) وقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودِعُ اللهَ هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، يقول الحق تعالى: إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ مَنْ وفى بالعهد، أدخِلوا عبدي الجنة» «2» .
الإشارة: صدرُ الآية يشير إلى الفرق، وعَجُزُها يشير إلى الجمع، كما هي عادته تعالى في كتابه العزيز، يشرع أولاً، ويُحَقِّق ثانياً، فأثبت الحق- جلّ جلاله- شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته لإثبات سر الشريعة، ثم محاها بقوله: (لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم) بحكم الحقيقة. فإثبات الرسوم شريعة، ومحوها حقيقة، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان.
إثبات الرسوم إسلام وإيمان، ومحوها شهود وإحسان، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج «3» ، لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أي، الانقياد والإذعان، ظاهراً وباطناً، لأحكام القهرية والتكليفية، فمن لا انقياد له لا دين له كاملاً.
ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبُرهان، فقال:
وَمَا اخْتَلَفَ ...