الدنيا وجاهها ذرة. ومَنْ سجيتُه مقدسة مِن حرص نفسه أفلح وظفر برؤية ربه. هـ. قلت: كأنه يشير إلى أنَّ قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} هم أهل السير من المريدين، وقوله تعالى: {والذين تبوؤوا الدار ... } هو الواصلون العارفون، أي: تبوؤوا دارَ المعرفة، حيث سكنوها، ورسخوا فيها، وأَلفِوا الإيمان وذاقوا حلاوته.
وقوله تعالى: {ويُؤثرون على أنفسهم ... } الخ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص، والزهد فيما لم يملكوا بقوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة} وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها، ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد: ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ، قَدِمَ حاجًّا، فقال: يا أبا يزيد، ما الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا الكلاب ببلخ، فقلت: وما الزهد عندكم؟ فقال: إذا وجدنا آثرنا، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون: ما حد الزاهد المشروح صدره؟ فقال: ثلاثة؛ تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا} أي: ألم ترَ يا محمد، أو: يا مَن يسمع، إلى عبد الله بن أُبيّ وأشياعه؟ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين، من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة، بعد حكاية محاسن أقوال المؤمنين، وأحوالهم الحميدة، على اختلاف طبقاتهم. وقوله تعالى: {يقولون} استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو: لاستحضار صورته. واللام في قوله: {لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} للتبليغ، والمراد بالأخوة: أخوة الكفر، واللام في قوله: {لئن أُخرجتم} موطئة للقسم، و {لنَخَرُجَنَّ} جوابه، أي: والله لئن أُخرجتم من دياركم