تعلّم العلم لاكتساب الدنيا، وتحصيل الرفعة بها، كمثل مَن رفع العذرة بملعقة من ياقوت، فما أشرف الوسيلة، وما أخس المتوسل إليه! ومثَلُ مَن قطع الأوقات في طلب العلم، فمكث أربعين سنة يتعلّم العلم ولا يعمل به، كمثل مَن قعد هذه المدة يتطهّر ويُجدد الطهارة، ولم يُصلِّ صلاةً واحدة، إذ مقصود العلم العمل، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة، ولقد سأل رجلٌ الحسنَ البصري عن مسألة، فأفتاه فيها، فقال الرجل للحسن: قد خالفك الفقهاءُ، فزجره الحسن، وقال: ويحك، وهل رأيت فقيهاً، إنما الفقيه مَن فقه عن الله أمْرَه ونهيه. وسمعتُ شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول: الفقيه مَن انفقأ الحجاب عن عينيْ قلبه، فشاهد ملكوت ربه. انتهى كلامه.
فالعلماء المخلِصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان، تلي درجتهم درجةَ الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان، ثم الصالحون الأبرار، ثم عامة المؤمنين، ومَن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية، قال صلى الله عليه وسلم: " عامة أهل الجنة البُله " وعِلِّيُون لذوي الألباب، وذووا الألباب هم أهل البصائر، الذين فتح الله بصيرتَهم، وتطهّرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة، حتى شاهدوا الحق وعرفوه، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18] ، وراجع ما تقدم في تفسيرها، وكل مَن كان محجوباً عن الله، يتسدل بغيره عليه، فهو من البُله، إلاّ أنّ صاحب الاستدلال أربع من المقلِّد، أي: سَلِمَ من الوسواس، وإلاّ فالمقلِّد أحسن منه.
ولمّا تكلم في الإحياء على درجات التوحيد، قال: " والدرجة العليا في ذلك للأنبياء، ثم للأوياء العارفين، ثم للعلماء الراسخين، ثم الصالحين "، فقدَّم الأولياء على العلماء. وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته: فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه. هـ. سُئل ابن رشد - رحمه الله - عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء، فقال: أمّا تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله؛ فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه، ولا يشكُّ عاقلٌ أنَّ العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع؛ لأنّ العلم يشرف بشرف المعلوم. ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك، فانظر. ذكره في المعيار.
وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالِم: إنّ العارف فوق ما يقول، والعالِم دون ما يقول، يعني: أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين، كان قَدَمُه فوق ما