العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي: وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة: أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة: أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله: " الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل: إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: {يأيها الذين آمنوا} بالرسل المتقدمة {اتقوا اللهَ} أي: خافوه {وآمِنوا برسوله} محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، {يُؤتِكم كِفْلَين} نصيبين {من رحمته} لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، {ويجعل لكم نوراً تمشون به} يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله: {يَسْعَى نُورُهُم ... } [الحديد: 12] الخ، {ويغفرْ لكم} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، {واللهُ غفور رحيم} ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب: قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ... " الحديث. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين ... الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين: " مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود