يسحبون على وجوههم، فينهكمون في الدنيا في الحظوظ والشهوات، وفي الآخرة في نار البُعد والقطيعة، على دوام الأوقات، ويقال لهم: ذُوقوا مرارةَ الحجاب وسوء الحساب، وكل هذا بقدر وقضاء سابق، كما قال تعالى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي: بتقدير سابق في اللوح قبل وقوعه، قد علمنا حالَه وزمانه قبل ظهوره، أو: خلقناه كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، و «كل» : منصوب بفعل يفسره الظاهر. وقرىء بالرفع شاذا، والنّصب أولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون «خلقنا» صفة لشيء، ويكون الخبر مقدراً، أي: إنا كل شيء مخلوق لنا حاصل بقدر، فيكون حجة للمعتزلة، باعتبار المفهوم، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله. فلم يسبق لها قدر، تعالى الله عن قولهم، ويجوز أن يكون الخبر: «خلقناه» ، فلا حجة فيه، ولا يجوز في النصب أن يكون «خلقنا» صفة لشيء لأنه يفسر الناصب، والصفة لا تعمل في الموصوف، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً. قال أبو هريرة: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخاصمونه في القدر، فنزلت الآية «1» ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية، أي: على طريق الإخبار بالغيب.
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي: كلمة واحدة، سريعة التكوين، وهو قوله تعالى: كُنْ أي: وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلاّ أَن نَّقُولَ لَهُ: كُنْ، فيكون، أو: إلاّ فِعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معالجة، كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في السرعة، أي: على قد ما يلمح أحد ببصره، وقيل: المراد سرعة القيامة، لقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ «2» .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي: أشباهكم في الكفر من الأمم، وقيل: أتباعكم، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل فِي الزُّبُرِ في ديوان الحفظة، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِن الأعمال، ومِن كل ما هو كائن مُسْتَطَرٌ مسطور في اللوح بتفاصيله.