يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ، بضم الميم (?) : مصدر، أي: في إقامة حسنة، وبالفتح:
اسم مكان، أي: في مكان كريم، وأصل المقام، بالفتح: موضع القيام، ثم عمّم واستعمل في جميع الأمكنة، حتى قيل لموضع القعود: مقام، وإن لم يقم فيه أصلاً، ويقال: كنا في مقام فلان، أي: مجلسه، فهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم، وقوله: أَمِينٍ: وصف له، أي: يأمن صاحبُه الآفات والانتقال عنه، وهو من الأمن ضد الخيانة، وصف به المكان مجازاً، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
وقوله: ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
: بدل من «مقام» جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ، وهو ما رقَّ من الديباج، وَإِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه، وهو مُعرّب، والجملة إما حال، أو استئناف، حال كونهم مُتَقابِلِينَ في مجالسهم، يستأنس بعضهم ببعض، كَذلِكَ أي:
الأمر كذلك، قيل: المعنى فيه أنه لم يستوفِ الوصف، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف، فكأنه قال: الأمر نحو ذلك وما أشبهه، وليس بعين الوصف وتحققه.
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي: قرنّاهم وأصحبناهم، ولذلك عُدي بالباء. قال القشيري: وليس في الجنة عقد نكاح ولا طلاق، بل تمكن الوليّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف هـ. والحور: جمع حَوْراء، وهي الشديدة سواد العين، والشديدة بياضها، والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العَين، واختلف في أنها نساء الدنيا أو غيرها.
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه، لا يختص بزمان ولا مكان، آمِنِينَ من زواله وانقطاعه، ومن ضرره عند الإكثار منه، أو: من كل ما يسوءهم، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أصلاً، بل يستمرون على الحياة الأبدية، إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى سوى الموتة الأولى، التي ذاقوها، أو:
لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، فالاستثناء منقطع، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ، وهو محال، على نمط قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (?) .
وَوَقاهُمْ ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ، فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: أعطوا ذلك كله عطاءً وتفضُّلا منه- تعالى إذ لا يجب عليه شيء، فهو مفعول له، أو مصدر مؤكد لِمَا قبله، لأن قوله: وَقاهُمْ في معنى تفضل عليهم، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه إذ هو خلاص من جميع المكاره، ونيل لكل المطالب.