يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ فِرْعَوْنُ، تمويهاً على قومه، وجهلاً منه: يا هامانُ وزيره ابْنِ لِي صَرْحاً أي: قصراً عالياً، وقيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بَعُد منه.
يقال: صَرِح الشيءُ: إذا ظهر. لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي: الطرق. ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها، وإظهاراً أنه يقصد أمراً عظيماً:
أَسْبابَ السَّماواتِ أي: طرُقها وأبوابها، وما يُؤدّي إليها، وكل ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي: فأنظر إليه وأتحقق وجوده، قرأه حفص بالنصب، جواب التمني، والباقي بالرفع، عطفاً على «أبلغ» . قال البيضاوي: ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال، يرصد منه أحوال الكواكب، التي هي أسباب سماوية، تدلّ على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله تعالى إياه، أو أن يرى فساد قوله عليه السلام فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وما ذلك إلا لجهله بالله وكيفية استنبائه. هـ.
قلت: والظاهر أنه كان مجسّماً، يعتقد أن الله في السماء، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثَم إله، وإن قوله:
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي: في ادّعاء إله غيري، بدليل قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي (?) مع أنَّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه، وجرأة على الله، لا حقيقة له.
قال تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك التزيين المفرط، والصدّ البليغ، زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال، وَصُدَّ (?) عَنِ السَّبِيلِ أي: سبيل الرّشاد، وقرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدّ» بالبناء للمفعول، فالفاعل في الحقيقة فيهما هو الله، بتوسط الشيطان في عالم الحكمة، ومَن قرأ «صَدّ» بالبناء للفاعل، فالفاعل: فرعون، إما صدّ الناس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات، أو: اتصف بالصدّ. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي: خسران وهلاك.
الإشارة: ما ظهر على فرعون هو من طغيان النفس وعتوها، فإنَّ النفس إذا اتصلت بها العوافي، وساعدتها أقدار الجمال في الظاهر، ادَّعت الربوبية، فإنَّ فرعون قيل: إنه عاش أربعمائة سنة، لم يتوجع فيها قط، فادّعى الربوبية، ولذا قال بعض الصوفية: في النفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حين قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فكان