ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا في بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرُّغ، فقال: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، فمَن تعسَّر عليه التفرُّغ للتقوى، والإحسان وعمل القلوب، في وطنه، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء، فإنه لا عذر له في التفريط والبطالة أصلاً.

ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس، يحتاج إلى صبر كبير رغّب في الصبر بقوله: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان، وتحمُّل مشاق الطاعات، وتحقيق الإحسان، أَجْرَهُمْ في مقابلة ما كابدوه من الصبر، بِغَيْرِ حِسابٍ بحيث لا يحصى ولا يحصر بل يصب عليهم الأجر صبا، فلهم مالا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وعن ابن عباس رضي الله عنه: (لا يهدي إليه حساب الحسّاب، ولا يُعرف) ، وفي الحديث: «أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج، فيوفّون بها أجورهم، ولا تنصب لأهل البلاء بل يُصب عليهم الأجر صبّاً، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» (?) . وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء، والله تعالى أعلم.

الإشارة: بالتقوى الكاملة يصير العبد من أُولي الألباب، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النور في القلب، ويتصفّى من الرذائل، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفياً عند قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ (?) فمَن أحسن في تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه، وحفظه في دنياه وأخراه.

فمَن تعذّرت عليه التقوى في وطنه، فليهاجر منه إلى غيره، والهجرة سُنَّة نبوية، وليتجرّع الصبر على مفارقة الأوطان، ومهاجرة العشائر والإخوان، لينخرط في سلك أهل الإحسان، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (?) الآية.

قال القشيري: الصبر: حَبْسُ النفس على ما تكره، ويقال: تجرُّعُ كاسات التقدير، من غير استكراهٍ ولا تعبيس، ويقال: التهدُّف (?) لسهام البلاء. هـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015