في الأذواق والكشوفات، يتجدّد له في كل يوم وساعة، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ، بخلاف الملائكة، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ، ولا ينتقل عنه، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها. ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر و؟؟؟ ان، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات، لا في العلوم الغيبية، ولا في الكمالات النفسية. فتأمله.
وقال القشيري: الملائكة لا يتخطون مقامهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله، لا يطلع عليه أحد، والأنبياء- عليهم السلام- لهم مقام مشهورٌ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخَلْقِ قدوة، فأمْرُهُم على الشهرة، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ. هـ. وقال الورتجبي: أهل البدايات في مقام الطاعات، والأوْسَاط في المقامات، مثل التوكل والرضا، والتسليم، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة في مقام معارف، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام، ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات، فليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف، حيث أفناهم قهرُ الجلال، والجمال، والعظمة، والكبرياء، عن كل ما وجدوا من الحق، فيبقوا في الفناء إلى الأبد. هـ. قلت: ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد، والزهّاد، وأرباب الأحوال، وحالهم كحال الملائكة، يُمَدُّون في مقامهم، ولا ينتقلون منه، فلكل واحدة قوة في مقامه، لا يطيقها العارف، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات، والترقي فيها أبداً.
ثم قال الورتجبي في قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية، من الصلاة والتسبيح، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية. قال بعضهم: لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة، حتى قالوا بالتفخيم: إِنَّا لَنَحْنُ، فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة، حتى قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. هـ. وكلامنا كله مع عامة الملائكة، وأما المقربون فالأدب الإمساك عنهم- صلوات الله وسلامه عليهم.
ثم رجع إلى الكلام مع قريش، فقال:
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)