ثم ذكر خليله إبراهيم عليه السلام، فقال:
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
قلت: (أَئِفكاً) : مفعول له، و (آلهة) : مفعول «تُريدون» ، أي: أتريدون آلهة من دون الله إفكا وزورا. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له، وقدّم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكونَ «إفكاً» مفعولاً به، أي: أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك في نفسها، أو: حالاً، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي: نوح لَإِبْراهِيمَ، أي: ممن شايعه على أصول الدين، وإن اختلفا في الفروع، أو: شايعه على التصلُّب في دين الله، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيَّان هود، وصالح. إِذْ جاءَ رَبَّهُ: متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وممن شايعه على دينه إبراهيم، حين جاء ربه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك، أو: من آفات القلوب، ومعنى المجيء بقلبه ربه: أنه أخلص لله قلبه، وعلم ذلك منه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ، «إذ» : بدل من الأولى، أو: ظرف لجاء، أو: لسليم، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكا وزورا وباطلاً. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، فما تقولون، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟. أو: أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة لكونه رب العالمين، حتى تركتم عبادته، وأشركتم معه غيره، أَو أمنتم عذابه؟.
الإشارة: لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله، كحب الدنيا، والرئاسة، والجاه، فيجئ إلى الله بقلب سليم، أي: مقدس من شوائب الطبيعة، فهو سالم مما دون الله لاتصاله بالله. قال القشيري: «بقلب سليم» لا آفة فيه. ويقال: لديغٍ مِن محبة الأغيار، أو: من الحظوظ، أو: من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.