يقول الحق جلّ جلاله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، وهو حبيب النجار (?) ، وكان في غارٍ من الجبل يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم، وأظهر دينه. قال القشيري: في القصة أنه جاء من قرية فسمَّاها مدينة، وقال: من أقصاها، ولم يكن بينهما تفاوت كثير، وكذلك أجرى سُنَّته في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِه، إذا كان يرضاه، ويستنزِرُ الكثيرَ من فضله إذا بَذَلَه وأعطاه. هـ.
ولما قَدِم سألهم: أتطلبون على ما تقولون أجراً؟ فقالوا: لا، قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة وَهُمْ مُهْتَدُونَ على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة. فقالوا: وأنت على دين هؤلاء؟ فقال: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: خلقني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب، ومقتضى الظاهر: وإليه أرجع. والتحقيق: أن المراد: مالكم لا تعبدون، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم تلطّف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها، جرى على ذلك في قوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، والمراد: تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره.
ثم قال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني الأصنام، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ، وهو شرطٌ جوابه:
لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ من مكروه بالنصر والمظاهرة، إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت إلهاً غيره لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لفي خطأ بيّن، لا يخفى على عاقل، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي: اسمعوا إيماني، لتشهدوا به لي يوم القيامة، فقتله قومُه (?) .
ولمَّا مات قِيلَ له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فدُفن في أنطاكية، وقبره بها. ولم يقل: قيل له لأن الكلام مسوق لبيان القول، لا لبيان المقول له لكونه معلوماً. وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. وقال الحسن: لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله، فهو في الجنة (?) ، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا، وما أعدّ الله لأهل الإيمان، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي: بالسبب الذي غفر لي ربي به، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بالجنة، وهو الإيمان بالله ورسله، أو: بمغفرة ربي وإكرامي، ف «ما» : موصولة، حُذف عائدها المجرور، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول، أو: مصدرية، وقيل: استفهامية. ورُدّ بعدم حذف ألفها.