أرسلناك لتنذر قوماً غافلين، ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي: غير منذر آباؤهم، كقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ (?) وقوله: وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (?) أو: لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم، لقوله:
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
(?) . أو: لتنذر قوماً إنذار آبائهم، وهو ضعيف إذ لم يتقدم لهم إنذار. فَهُمْ غافِلُونَ، إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، وإلا فهو متعلق بقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر قوماً، كقولك: أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (?) أي: تعلق بهم هذا القول، وثبت عليهم ووجب لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة: إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به، اعتباراً بظاهر الأمر، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق، ولا فائدة فيها لأنَّ المكلفين قسمان: فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان إذ لا يطيقه، ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة في إنذاره وأمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه. هـ. قلت: الحكمة تقتضي تكليفهم لتقوم الحجة عليهم أو لهم، والقدرة تقتضي عذرهم. والنظر في هذه الدار- التي هي دار التكليف- للحكمة لا للقدرة.
ثم مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم، بقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ، معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، فَهُمْ مُقْمَحُونَ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق، يقال: قمح البعيرَ فهو قامح إذا روي فرفع رأسه، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه، تحت الذقن، حلقة، فلا [تخليه] (?) يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحاً. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن: مجتمع اللحيين. وقيل: «فهي» أي:
الأيدي. وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين. وفي مصحف أُبي: «إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً» وفي بعضها: «في أيديهم فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مقمحون» .
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، بفتح السين وضمها- قيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله، كالجبل ونحوه، فالبضمّ، أي: جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم، فهم محبوسون