قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ.... الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الخضوع، وما أكرمهم به، فقال:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
يقول الحق جلّ جلاله: تَتَجافى أي: ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل: وَهَب لقوم هِبَةً، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته، ثم مدحهم عليه فقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، يَدْعُونَ أي: داعين رَبَّهُمْ خَوْفاً، أي: لأجل خوفهم من سخطه، وَطَمَعاً في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: «هو قيامُ العبد من الليل» «1» . وعن ابن عطاء: أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم «2» . وقال ابن عمر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «من عَقَب- أي: أحيا- ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين، وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد: الدعاء ما بين المغرب والعشاء» «3» . هـ.
وقيل: هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة الله، يعني: أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي: لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تَقَرُّ بِهِ العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب: «أَخْفَى» على المضارع. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وعن الحسن: أخفى القوم أعمالهم في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أنَّ المراد الصلاةُ في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.