وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى، وَهُوَ الْعَزِيزُ: الغالب على أعدائه الرَّحِيمُ: العاطف على أوليائه.
وَعْدَ اللَّهِ أي: وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكد لِمَا قبله لأن قوله: سَيَغْلِبُونَ وعد، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلا بد من نصر الروم على فارس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو: لا يعلمون أنَّ الأمور كلها بيد الله لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها ومن التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها: ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء: إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. هـ. وباطنها: أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهِراً) : مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها وتوائبها. فهم، الثانية: مبتدأ، و (غافلون) : خبره، والجملة: خبر الأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم، غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس، في أدنى أرض العبودية، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة النفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع: من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء، وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ.
وقال الورتجبي: قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ.. الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حين تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري: قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا: استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كل امرئ عِلمُه كما في الأثر عن علىّ رضي الله عنه. قال:
وقيمة كل امرئ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ ... والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ