وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عزّ وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لا حق بالذين تمنوا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين فإن القلب إذا لم يقنع- لو ملك الدنيا بحذافيرها- لم يشبع. وقال بعض الحكماء: القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا:
إن كنت تسّموا إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا ... فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا ... وَسَخَّرَ النَّاسَ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه ... وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ ... ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ والطّين
ثم ذكر عاقبة المتواضعين، فقال:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قلت: (تلك) : مبتدأ، و (نجعلها) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي: تلك الدار التي سمعت بذكرها، وبلغك خبرها.
ومعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي: تكبراً وقهراً كحال فرعون، وَلا فَساداً عملاً بالمعاصي، أو: ظلماً على الناس، كحال قارون، أو: قتل النفس، أو:
دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك