يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي: رسولاً يُنذر أهلها، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر، فيخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نشأ ذلك فحملناك ثقل نذارة جميع القرى، حسبما نطق به قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (?) لتستوجب بذلك الدرجة القصوى، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء، وكأنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم، والتقصير في الدعوة لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي: كُنْ قائماً بحقِّنا، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا، أو مبالاةٌ بسوانا، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ. هـ.
وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي: بالقرآن بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ، وذكر أحوال الأمم الهالكة، جِهاداً كَبِيراً عظيماً موقعه عند الله لما يتحمل فيه من المشاق، فإن دعوة كُلِّ العالمين، على الوجه المذكور، جهاد كبير، أو: (جاهدهم به) بالشدة والعنف من غير مداداة ولا ملاينة، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف، كقوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (?) . والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود، فقلَّ أن يجتمع منهم، في العصر الواحد، ثلاثة أو أربعة في الإقليم الكبير لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته، قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً، وكلما قَلَّ عددهم، وعظُم الانتفاع بهم، عظُم قدرهم، فينبغي للمذكِّر أن يُذكِّر كُلاًّ بما يليق به، فأهل العصيان ينبغي له أن يشدد في الإنذار، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغي له أن يُبشِّرهم ويسهل الأمر عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يسّروا ولا تعسّروا، ويشّروا ولا تُنَفِّرُوا» (?) ، فيحتاج المذكِّر إلى فطنة وفراسة، حتى يعطي كل واحد ما يليق به، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته، فقال: