الإشارة: ليس على من عَمِيَتْ بصيرتُه، فلم ير إلا الكون حَرج في أن يقف مع رُخَصِ الشريعة، ويتناول كل ما تشتهيه نفسه، مما أباحته الشريعة، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر. وكذلك المريضَ القلب بالخواطر والأوهام، ومن عَرجت فكرته عن شهود الملكوت، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حِلِّيَّتَهُ، وفهموا عن الله في أخذه وتركه، لفتح بصيرتهم وشدة تبصُّرهم.
وقال الورتجبي في قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب. وهذا من قوله- عليه الصلاة والسلام- في وصف جمال الحق سبحانه: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقت سُبحات وجهه ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ» . فجعله معذوراً ألا يدرك فى الحقيقة وحقيقة الحق إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. هـ. ومراده ببطون الأزل: تجلياته تعالى، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي، لكنها، لما تجلت، كستها رداء الكبرياء، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها، أو قبلها، أو معها، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ. والله تعالى أعلم.
ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل: «نَحْنُ: لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً» . دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه، فوجد زوجته، فقال: هل عندك شيء نطعم به الفقراء؟
فأشارت إلى وعاء فيه تمر، لا يملك غيره، فأفرغه على رأسه، فأكلوا، وأخذوا ما بقي، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فقال: الآن علمت أنه يُحبني.
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان، فقال:
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول الحق جلّ جلاله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن، فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي: فابدأوا بالسلام على أهلها، الذين هم منكم، الذين هم بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة