قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة، ولكن ليتدارك ما فرط. وعنه، صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا عَايَنَ المؤمن المَلائِكَةَ قَالُوا له: نُرجِعُكَ إلى الدُّنْيا؟ فَيَقُولُ: إِلَى دارِ الهُمومِ والأحْزانِ؟ بَلْ قُدُوماً إلى اللهِ تبارك، وتعالى، وأمَّا الكافر فَيقُولُ: ارجعون لعلي أعملَ صالحاً..» (?) . وقال القرطبي: ليس سؤالُ الرجعة مختصاً بالكافر، فقد يسألها المؤمن، كما في آخر سورة المنافقين (?) ، ودلت الآية على أن أحداً لا يموت حتى يعرف: أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلم ذلك قبل نزول الموت وذواقه. هـ. قال المحشي الفاسي: ولعل محمل الحديث في المؤمن الكامل غير المقصِّر، والآية في غيره. والله أعلم. هـ.
كَلَّا أي: لا رجوع له أصلاً، وهو ردع عن طلب الرجعة، واستبعاد لها، إِنَّها أي: قوله: (رَبِّ ارْجِعُونِ) ، كَلِمَةٌ، والمراد: طائفة من الكلام، وهو (رَبِّ ارْجِعُونِ ... ) إلخ، هُوَ قائِلُها، ولا فائدة له فيها، ولا حقيقة لها لعدم حصول مضمونها، أو هو قائلها لا محالة لتسليط الحسرة والندم عليه، فلا يقدر على السكوت عليها، (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي: أمامهم، والضمير للجماعة لأن أحدهم بمعنى كلهم، بَرْزَخٌ: حائل بينهم وبين الرجعة، إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ: يوم القيامة، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا، لما علِم أنه لا رجعة يوم القيامة إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى الحياة الأخروية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قاله صلى الله عليه وسلم في تضرعه إلى الله تعالى- كما أمره الحق تعالى- يقوله كل عارف ومتيقظ، فيقول:
ربِّ إما تُريني ما يُوعدهُ أهل الغَفلة والبطالة من التحسر والندم، عند انقراض الدنيا وإقبال الآخرة، فلا تجعلني في القومَ الظالمين، أي: لا تسلك بي مسلكهم حتى أتحسر معهم، فإذا أوذي في الله- كما هو شأن أهل الخصوصية- يقال له: ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ، وقابل الإساءة بالإحسان، وإياك والانتصار لنفسك، وتعوذ بالله من همزات الشياطين، إن قامت عليك نفسك وأرادت الانتصار، كما هو شأن أهل الغفلة، في كونهم منهمكين في الغفلة، مملوكين في أيدي أنفسهم، مستمرين على ذلك، حتى إذا حضر أجلهم طلبوا من الله الرجعة، هيهات هيهات، (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وفي الأثر: «ما منكم من أحد إلا وسيندم عند الموت، إن كان محسناً أن لو زاد، وإن كان مسيئاً أن لو تاب» . أو كما قال.
ولأجل هذا المعنى شد أهل اليقظة الحُزُم، وشمروا عن ذراعهم في طاعة مولاهم، وعمروا أوقاتهم بما يقربهم إلى محبوبهم، وتنافسوا في ذلك أيَّ تنافس، وفي ذلك يقول القائل: