الجوارح، إن لم يكن معها إصرار، فقد تُوجب القرب من الكريم الغفار «معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارًا» ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول. وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردًا وإبعادًا، ومخالفة آدم حيث كانت بالجوارح أورثت قُربًا واجتباء.
والحاصل: أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه، ويحقق له العبودية والانكسار، فهو شرف له وكمال، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد، كائنًا ما كان، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية، أو من الإصرار، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب، ولا تنقصه، بل تكمله، كما تقدم. فالتنزيه إنما يكون من النقائص، وهي التي تُوجب البعد عن الحق، لا مما يؤدي إلى الكمال، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء- عليهم السلام- مما صُورته المعصية، ليس بنقص، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء، على سبيل الهفوة، فتأمله، ولا تبادر بالاعتراض، حتى تصحب الرجال، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي: العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية، وقوله: وَعَصى أي: أظهر خلافًا، ثم أدركته الاجتبائية، فأزالت عنه مذمة العصيان، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: (نعمت المعصية أورثت الخلافة) .
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق، قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (?) فقد استخلفه قبل أن يخلفه، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض، فهو نزول حسًا، ورفعة معنى، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، هذا فيمن غلبت عليه الطينية الإمشاجية، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون، أخلاء متقون، قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (?) .
وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي: داع يدعو إليَّ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم، فلا يضل ولا يشقى، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى. ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم، وتنكب عن صحبتهم، فإن له معيشة ضنكًا، مصحوبة بالحرص والطمع، والجزع والهلع، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا، فلا يرى إلا الأكوان الحسية، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال رب لم حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني، عند رؤية الأواني، وقد كنت بصيرا في الدنيا ببصر الحس؟ قال: كذلك أتتك آياتنا، وهم الأولياء العارفون، فنسيتها، ولم تحتفل بشانها، وكذلك اليوم تُنسى لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.