يقول الحق جلّ جلاله في حق العاص بن وائل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا: القرآن المشتمل على البعث والحساب، قال خبَّاب بن الأرَت: كان لي على العَاصِ بن وَائِل دِيْنٌ، فاقْتَضيتُه، فقَالَ: لاَ، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ،، فَقُلْتُ: لا والله لا أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ، قال العاص: فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ، فأعطيك، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة- استهزاء واستخفافًا- وفي رواية البخاري: «كُنت قَيْنَا (?) في الجاهلية، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ ... » (?) فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها.
وَقالَ مستهزءًا بها، مصدّرًا باليمين الفاجرة: والله لَأُوتَيَنَّ في الآخرة مالاً وَوَلَداً أي: انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب، الذي استأثر به العليم الخبير، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا، وأقسم عليه، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين، وهذا رد لكلمته الشنعاء، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد:
قيل: كلمة الشهادة، أو العمل الصالح، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد، قال القشيري: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ فقال بتعريف له منا، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي: ليس الأمر كذلك. ثم قال: ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً، فالله تعالى يحققه له لأنه على عهد مع الله تعالى، والله لا يُخلف الميعاد. هـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال: كَلَّا أي: انزجر عن هذه المقالة الشنيعة، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة، وتنبيه على خطئه، قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي: سنظهر ما كتبنا عليه، فهو كقول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أي: تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ، أو: سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (?) قال ابن جزي: إنما جعله مستقبلاً لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. هـ.