ثم قال: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي: وقد أوجدت أصلك «آدم» من العدم، ثم نشأتَ أنت من صلبه، ولم تك شيئًا، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده، ولذلك قال في آية أخرى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ (?) الآية. انظر تفسير أبي السعود.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة تدلنى على تحقق المسئول، وبلوغ المأمول، وهو حمل المرأة بذلك الولد، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان لما يُروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى- عليهما السلام- بستة أشهر، أو بثلاث سنين) ، ولا ريب في أنَّ دعاء زكريا عليه السلام كان في صغر مريم، لقوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ (?) ، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم- عليها السلام.
قالَ له تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر، ثَلاثَ لَيالٍ بأيامهن، للتصريح بها في آل عمران (?) ، حال كونك سَوِيًّا أي: سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح، مابك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ: من المصلّى، وكان مغلقًا عليه، فالمحراب مكان التعبد، أو من الغرفة، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب، ليدخلوا ويُصلوا، إذ خرج عليهم متغيرًا لونه، فأنكروه، وقالوا له: مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي: أوْمَأ إليهم، وقيل: كتب في الأرض: أَنْ سَبِّحُوا أي: صلوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا: صلاة الفجر وصلاة العصر، ولعلها كانت صلاتهم. أو: نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ (?) وفي الحكم:
«ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار» . فإذا اضطررت إلى مولاك، فلا محالة يجيب دعاك، لكن فيما يريد لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا تستعجل (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره، واستفرغ أوقاتك، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.