خلق آدمي أحضر روحه، فصور صورته بصورة الروح فلذلك قال عليه الصلاة والسلام إشارة وإبهامًا: «خلق الله آدم على صورته» . هـ. قلت: يعني: أن إظهار الروح من بحر الجبروت، في التجلي الأول، كان على صورة آدم، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم، وهو التجلي الأول من بحر المعاني، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن، فقال في حديث آخر: «إنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن» . والله تعالى أعلم. وقيل: الصوت الطيب روحاني، ولتشاكله مع الروح، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها، إذا كان صاحبها له ذوق سليم، يسمع من صوت طيب كريم. سمع أبو يزيد نغمة، فقال: أجد النغم نداء منه تعالى. وقيل: إن الروح لم تدخل في جسد آدم إلا بالسماع، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن قوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فقال:
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
قلت: قال ابن جزي: هذه الآية متصلة المعنى بقوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي: في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم. هـ. (إلا رحمة) : يحتمل أن يكون متصلاً، أي: لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك. أو منقطعًا، أي: لو شئنا لذهبنا بالقرآن، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب، و (لا يأتون) : جواب القسم الدال عليه اللام الموطئة، وسد مسد جواب الشرط. ولولا اللام لكان جوابًا للشرط، ولم يُجزَمْ لكون الشرط ماضيًا، كقول زهير:
فإن أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسألَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لي وَلاَ حَرَمُ «1»
و (إلا كفورًا) : استثناء مفرغ منصوب بأَبَى لأنه في معنى النفي، أي: ما رضي أكثرهم إلا الكفر به.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أُوتيتموها، ومقتبس الأنوار، فلا يبقى عندكم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. والمراد بالإذهاب: المحو من المصاحف