لهما والرقة والشفقة عليهما. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما أي: وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام، فقل: اللهم ارحمهما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي: رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل: رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ (?) .

ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رِضَا اللهِ فى رضا الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا» (?) . ورُوي: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: «لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» . ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال: إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال:

غَذَوْتُك مَوْلُودًا، ومُنْتُك يَافعًا، ... تُعلُّ بما أُجْرِي عليك، وتَنْهَلُ

إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ ... لسُقْمِكَ، إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ

كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي ... طُرِقتَ به دونى، وعينى تهمل

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي ... إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً ... كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَكَ، إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي، ... فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاور يفعل (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015