وقت دون ما هم فيه، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره، ولا يشركون مع الله في تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين، فهم، في عموم أوقاتهم، مستغرقون في شهود المحبوب، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب، سوى شهود وجه المحبوب، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.
وسبب وجود هذا فى قلوبهم حياة روحهم بالإيمان التام، والمعرفة الكاملة، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (?)
قلت: (أن أنذروا) : مفسرة، بمعنى أي لأن الوحي فيه معنى القول. أو مصدرية في موضع الجر، بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة. وقوله: (لا إله إلا أنا) : جرى على المعنى، ولم يجر على اللفظ، وإلا لقال: لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسي: وسر ذلك هنا: التصريح بالمقصود، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره، كما قيل في قوله: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» ، أي: ولم يقل: فإياه فارهبوا، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب، وتصريحا بالمقصود، كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غير. هـ.
قلت: وكأنه قال هنا: يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد، وأنا ذلك الواحد.
يقول الحق جلّ جلاله، تحقيقًا لِمَا وعدهم به، وأن ذلك الوعد، مع دنوه وقربه بالوحي، فلا خلف فيه، فقال:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي: جبريل، جمعه تعظيمًا، أو: لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة، فيحضرون الوحي حُرّسا له. أو: لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة، كما في صحيح مسلم: «إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك» «2» . وقال عليه الصلاة والسلام: «إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت» . ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار، وكان بعد عيسى عليه السلام، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا، ثم مات، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك، يقال له: رفائيل، فكان يلقي إليه الوحي، ويطوي له الأرض. هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب، فانظره.