وحيل بينهم وبين النفع، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه، فهو كما قيل: فذلكة التمثيل. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون، هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي: هو الغاية في البُعد عن طريق الحق.
الإشارة: العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص في أوله، والإسرار في آخرِه، والتبري فيه من الحول والقوة، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الإبقَاءَ عَلَى العمل أشَدُّ مِنَ العمل، وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ العمل فيُكتب له عَمَلٌ صالحٌ، معمول به في السر، يضعِّف أجره بسبعين ضِعفاً، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُعْلنه، فيكتب علانيته، ويمحى تضعيف أجره كله، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُحب أن يُحمد عليه، فيُمحى من العلانية ويكتب رياء، فاتقى الله امرؤ صان دينه، وإن الرياء شرك» . رواه البيهقي «1» .
وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب، كعبادة التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، أو نية صالحة وهدى صالح، أو زهد في القلب، وورع وصبر، وشكر وحلم، وغير ذلك من أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، بل يتولى جزاءه أكرمُ الأكرمين. ولذلك قيل: ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام: «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» ولهذا أمر به- أي:
بالتفكر- بعد ضرب المثل للعمل الظاهر، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو أيها السامع، أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لتدل على الحق، أو بالوجه الذي يحقَّ ان تُخلق لأجله، وهو التعريف بخالقها، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام، ولذلك قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، أي: إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقاً آخر. فإنَّ مَن قدر على إيجاد صورهم، وما تتوقف عليه مادتهم، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي: بمتعذر، أو ممتنع لأن قدرته عامة التعلُّق، لا تختص بمقدور دون آخر، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يُفرد بالعبادة والقصد رجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه يوم الجزاء، الذي أشار إليه بقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ ... إلخ.