قلت: فالحبيب غيور لا يُحب أن يرى في قلب حبيبه غيره. فإذا رأى فيه شيئاً أخرجه منه، وفرق بينه وبينه غيرةً منه واعتناء به، وهو السر في افتراق يوسف من أبيه. والله تعالى أعلم.
ثم تعرضوا ليوسف، فقالوا:
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
يقول الحق جلّ جلاله: قال إخوة يوسف لما حركهم الحسد: اقْتُلُوا يُوسُفَ قيل: إنما قاله شمعون ودان، ورضي به الآخرون، أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أي: في أرض بعيدة يأكله السباع، أو يلتقطه أحد، فإن فعلتم يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي: يصفْ إليكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم، ولا ينازعكم في محبته أحد، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف، أو الفراغ من أمره، أو قتله، أو طرحه، قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله عما جنيتم، مع محبة أبيكم. أو صالحين في أمور دنياكم، فإنها تنتظم لكم بخلو وجه أبيكم لكم، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأياً، وقيل: روبيل: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن القتل عظيم، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ «1» الْجُبِّ: في قعره، سمي به لغيبته عن أعين الناظرين. ومن قرأ بالجمع، فكان بتلك الجب غيابات، يَلْتَقِطْهُ: يأخذه بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي: الذين يسيرون في الأرض، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما يفرق بينه وبين أبيه ولا بد، أو كنتم فاعلين بمشورتي.
الإشارة: إن أردت أن يخلو لك وجه قلبك فيخلو لك وجه حبيبك، حتى تشاهده عياناً وتعرفه إيقاناً، فاقتل كل ما يميل إليه قلبك ويعشقه من الهوى، واطرح عن عين بصيرتك رؤية السِّوى، ترى من أنوار وجهه وأسرار محاسنه، ما تبتهج به القلوب والأسرار، وتتنزه في رياض محاسنه البصائر والأبصار. وأنشدوا:
إِنْ تَلاشَى الكونُ عَنْ عَينِ كَشفِي ... شَاهَدَ القلبُ غَيبَهُ في بَيَان
فاطْرح الكونَ عن عِيانِكَ وامْحُ ... نقطةَ الغَيْنِ إنْ أردت ترانى