ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك، كما ظنه المعتزلة، لا سيما إذا تأمل القطع في مثل قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» ، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» ، جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمرَ فيه إلى الله كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء، وإن جزم القول فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبر به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً. فكما أن التعليق بدوام السموات والأرض غير مراد الظاهر، كذلك الاستثناء، فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة. هـ.

وقال الجلال السيوطي، في «البدور السافرة في أمور الآخرة» : اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً، أشبهها بالصواب: أنه ليس باستثناء، وإنما «إلا» بمعنى «سوى» ، كما تقول: لي عليك ألف درهم إلا ألفان، التي لي عليك، أي: سوى الألفين، والمعنى: خالدين فيها قدر مدة السموات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة في تقديم ذكر مدة السموات والأرض: التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً، ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به. والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده: لا آتيك ما دامت السموات والأرض. هـ. ومثله لابن عطية. قال: ويؤيد هذا التأويل قوله بعدُ:

عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: غير مقطوع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى، وسيبويه بلكن.

هـ. وقال الورتجبي: قال ابن عطاء: (إلا ما شاء ربك) من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. هـ. (إن ربك فعال لما يريد) من غير حجر ولا اعتراض.

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ كما تقدم.

عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ: غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط. والله تعالى أعلم.

الإشارة: السعادة على قسمين: سعادة الظاهر، وسعادة الباطن. والشقاوة كذلك. أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب. وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان، باليقين والاطمئنان، في حضرة الشهود والعيان، وفي الآخرة بدوام النظر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب. وشقاوة الباطن بالبعد عن الله، وافتراقه عن حضرة مولاه.

قال في نوادر الأصول: الشقاوة: فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه في حزبه الكبير: والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015