ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتِمُّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ جَرَيَانِ الْفُلْكِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ. وَقَدَّمَ الرِّيَاحَ عَلَى السَّحَابِ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْفُلْكِ، وَتَأَخَّرَ السَّحَابُ لِتَأَخُّرِ إِنْزَالِ الْمَاءِ فِي الذِّكْرِ عَلَى جَرَيَانِ الْفُلْكِ.

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْغَرِيبِ فِي الذِّكْرِ، حَيْثُ بَدَأَ أولا باختراع السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، ثُمَّ أَتَى بِالْمُشْتَرِكِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ التَّصْرِيفُ الْمَشْرُوحُ.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ ذَكَرَهَا تَعَالَى عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مُدْرَكٌ بِالْبَصَائِرِ، وَقِسْمٌ مدرك بالأبصار. فخلق السموات وَالْأَرْضِ مُدْرَكٌ بِالْعُقُولِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ لِلْأَبْصَارِ.

وَالْمَشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ انْتِسَابُهُ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، مُسْتَدَلٌّ عَلَيْهِ بِالْعُقُولِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَلَمْ يَقُلْ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُبْصِرُونَ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ، إِذْ مَآلُ مَا يُشَاهَدُ بِالْبَصَرِ رَاجِعٌ بِالْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى التَّوْحِيدَ بِالدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ، أعقب ذلك بذكر من لَمْ يُوَفَّقْ. وَاتِّخَاذُهُ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِيُظْهِرَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْمَنْهَجَيْنِ. وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنُهُ الضِّدُّ، وَأَنَّهُ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَمْ يُشَاهِدْ هَذَا الضَّالُّ شَيْئًا مِنْهَا. وَلَفْظُ النَّاسُ عَامٌّ، وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. فَالْأَنْدَادُ، بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ، اتَّبَعُوا مَا رَتَّبُوهُ لَهُمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ. قَالَ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (?) . وَالْأَنْدَادُ، بِاعْتِبَارِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ هِيَ الْأَصْنَامُ، اتَّخَذُوهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْخُصُوصُ. فَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، وَالْأَوْلَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَرُجِّحَ كَوْنُهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يُحِبُّونَهُمْ، فَأَتَى بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ، وَبِاسْتِبْعَادِ مَحَبَّةِ الْأَصْنَامِ، وَبِقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَالتَّبَرُّؤُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا العقلاء.

ومن: مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَأَفْرَدَ يَتَّخِذُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هُنَا بِمَعْنَى غَيْرِ، وَأَصْلُهَا أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ، وَهِيَ نَادِرَةُ التَّصَرُّفِ إِذْ ذَاكَ. قَالَ ابن عطية: ومن دُونِ: لَفْظٌ يُعْطِي غَيْبَةَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ دُونَ عَنِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي فِيهَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015