أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبُوا مَنَاهِيَهُ. وَعَطَفَ عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ عِلَّةً أُخْرَى، وَهِيَ إِتْمَامُ النِّعْمَةِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِذْ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ، وَلِتَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ. وَشَبَّهَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِإِتْمَامِ نِعْمَةِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ فِيهِمْ، إِذْ هَذِهِ النِّعْمَةُ هِيَ الْأَصْلُ، وَهِيَ مَنْبَعُ النِّعَمِ وَالْهِدَايَةِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُزِقُوا مِنْهَا الْحَظَّ الْأَكْمَلَ، وَهِيَ تِلَاوَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «1» ؟ فَكَيْفَ بِمَزِيدِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ مَنِ الْأَرْجَاسِ وَالْحَيَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ فِي النَّاسِ؟
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَقَالَ آخَرٌ:
مَحَلُّ الْعَلَمِ لَا يَأْوِي تُرَابًا ... وَلَا يَبْلَى عَلَى الزَّمَنِ الْقَدِيمِ
ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالذِّكْرِ لِهَذِهِ النِّعَمِ لِئَلَّا يَنْسَوْهَا، وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِأَنْ يَزِيدَهُمْ مِنَ النِّعَمِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ كُفْرَانِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ يَقْتَضِي زَوَالَهَا وَاسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَادَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ ثَانِي نِدَاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِيُقْبِلُوا عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. فَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمَا تُحَصِّلُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ مَنْ صَبَرَ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّا لَا نَشْعُرُ نَحْنُ بِحَيَاتِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ فِيهِ الصَّبْرُ، وَهُوَ شَيْءٌ مِنَ الْبَلَايَا الَّتِي ذَكَرَهَا تَعَالَى. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُبَشِّرَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا ابْتُلُوا بِهِ الْمُسَلِّمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا صَرِيحًا أَنَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَمَمَالِيكُهُ، وَإِلَيْهِ مَآبُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ، يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا أَرَادَ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَعَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ، وَهُوَ الْمُهْتَدِي الَّذِي ثَبَتَتْ هدايته ورسخت.
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)