وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (?) ، وَكَمَا تَرَى النَّائِمَ عَلَى هيئة، وَهُوَ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَنْعَمُ بِهِ أَوْ يَتَأَلَّمُ بِهِ. وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ حَفَرَ فِي مَكَانٍ، فَانْفَتَحَتْ طَاقَةٌ، فَإِذَا شَخْصٌ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ يَقْرَأُ فِيهِ وَأَمَامَهُ رَوْضَةٌ خَضْرَاءُ، وَذَلِكَ بِأُحُدٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُ رَأَى فِي صَفْحَةِ وَجْهِهِ جُرْحًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، إِمَّا أَرْوَاحُهُمْ، وَإِمَّا أَجْسَادُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ، فَاخْتُلِفَ فِي مُسْتَقَرِّهَا. فَقِيلَ: قُبُورُهُمْ يُرْزَقُونَ فِيهَا. وَقِيلَ: فِي قِبَابٍ بِيضٍ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ فِيهَا، قَالَهُ أَبُو بَشَّارٍ السُّلَمِيُّ. وَقِيلَ: فِي طَيْرٍ بِيضٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَمَسَاكِنُهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ رِيحَهَا، وَلَيْسُوا فِيهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ» .
وَرُوِيَ: فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمْ فِي قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ» .
وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ، فَهِيَ أَحْوَالٌ لِطَوَائِفَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُمْ فِي الْفِرْدَوْسِ» .
وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى، وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْبَدَنِ. فَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ مُنَعَّمَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ الرِّزْقُ، فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا (?) . وَقَالَ الْحَسَنُ: الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، تُعْرَضُ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الرَّوْحُ وَالْفَرَحُ، كَمَا تُعْرَضُ النَّارُ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الْوَجَعُ. وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهِيدِ جُمْلَةً فَيُحْيِيهَا وَيُوصِلَ إِلَيْهَا النَّعِيمَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَجْمِ الذَّرَّةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِرِزْقِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ وَلَا لِمُسْتَقَرِّهَا، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، اتِّبَاعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، حَيْثُ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَمَظِنَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (?) ، حَيْثُ ذَكَرَ الْعِنْدِيَّةَ وَالرِّزْقَ، وَظَاهِرُ