إِنَّ هذِهِ: أي السُّورَةِ، أَوْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَوْ جُمْلَةَ الشَّرِيعَةِ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنَ اتِّخَاذِ غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِمَنْ شَاءَ مِمَّنِ اخْتَارَ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَالْعَاقِبَةَ، وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ والتوسل بالطاعة.
وَما تَشاؤُنَ: الطَّاعَةَ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَقْسِرُهُمْ عَلَيْهَا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ، حَكِيماً حَيْثُ خَلَقَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَمَا يَشَاءُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ نَفْيٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَإِيجَادِ الْمَعَانِي فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَرُدُّ هَذَا وُجُودُ مَا لَهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَحَلُّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟
قُلْتُ: النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَأَصْلُهُ: إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا مَا يَشَاءُ اللَّهُ، لِأَنَّ مَا مَعَ الْفِعْلِ كَانَ مَعَهُ. انْتَهَى. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الظَّرْفِ إِلَّا الْمَصْدَرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ، كَقَوْلِكَ: أَجِيئُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ، وَلَا يُجِيزُونَ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا مَا يَصِيحُ الدِّيكُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالظَّالِمِينَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، جُمْلَةُ عَطْفٍ فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالظَّالِمُونَ، عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
وَلِلظَّالِمِينَ بِلَامِ الْجَرِّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعَدَّ لَهُمْ تَوْكِيدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَيُقَدَّرُ فِعْلٌ يُفَسِّرُهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَعَدَّ لِلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، فَتَقُولُ: بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَالْمَحْفُوظُ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْعَرَبِ نَصْبُ الِاسْمِ وَتَفْسِيرُ مَرَرْتُ الْمُتَأَخِّرِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِعْلًا مَاضِيًا.