كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ، قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ، كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى.
وَمُعْظَمُهَا نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ فِيمَا قَبْلَهَا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَعِلْمَهُ الْوَاسِعَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَخَسَفَ بِهِمْ أَوْ لَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حَاصِبًا. وَكَانَ مَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِهِ هُوَ ما تلقفه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنْسُبُونَهُ مَرَّةً إِلَى الشِّعْرِ، وَمَرَّةً إِلَى السِّحْرِ، وَمَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِبَرَاءَتِهِ مِمَّا كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُونِ، وَتَعْظِيمِ أَجْرِهِ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَى خُلُقِهِ الْعَظِيمِ.
ن: حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، نَحْوَ ص وق، وَهُوَ غَيْرُ مُعْرَبٍ كَبَعْضِ الْحُرُوفِ الَّتِي جَاءَتْ مَعَ غَيْرِهَا مُهْمَلَةً مِنَ الْعَوَامِلِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَوْضِعِهَا بِالْإِعْرَابِ تَخَرُّصٌ. وَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ اسْمُ الْحُوتِ الْأَعْظَمِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ اسْمُ الدَّوَاةِ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ: يَرْفَعُهُ أَنَّهُ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ آخِرُ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ.
وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: أَنَّهُ نَهْرٌ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ
، لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: ن حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَلَوْ كَانَ كَلِمَةً تَامَّةً أُعْرِبَ كَمَا أُعْرِبَ الْقَلَمُ، فَهُوَ إِذَنْ حَرْفُ هِجَاءٍ كَمَا فِي سَائِرِ مَفَاتِيحِ السُّوَرِ. انْتَهَى. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ اسْمُ الدَّوَاةِ أَوِ الْحُوتِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ كَالْقَلَمِ، فَإِنْ كَانَ عَلَمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجَرَّ، فَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا مُنِعَ الصَّرْفَ، أَوْ مُذَكَّرًا صُرِفَ، وَإِنْ كَانَ جِنْسًا أُعْرِبَ، وَنُوِّنَ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَضَعُفَ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَا كَانَ اسْمًا لِلدَّوَاةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لُغَةً لِبَعْضِ الْعَرَبِ، أَوْ لَفْظَةً أَعْجَمِيَّةً عُرِّبَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الشَّوْقُ بَرَّحَ بِي إِلَيْهِمْ ... أَلْقَتِ النُّونَ بِالدَّمْعِ السُّجُومُ