أَشْرَفَ مَا حَصَلَ لِذُرِّيَّتِهِمَا، وَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، وَهِيَ الَّتِي بِهَا هَدْيُ النَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكِتابَ، وَهِيَ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ، وَهِيَ جَمِيعُهَا فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فَصَدُقَ أَنَّهَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَالنُّبِيَّةَ مَكْتُوبَةً بِالْيَاءِ عِوَضَ الْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْكِتابَ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ. وَمَعَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ بِذَلِكَ، انْقَسَمُوا إِلَى مُهْتَدٍ وَفَاسِقٍ، وَأَخْبَرَ بِالْفِسْقِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ.
ثُمَّ قَفَّيْنا: أَيْ أَتْبَعْنَا وَجَعَلْنَاهُمْ يَقْفُونَ مَنْ تَقَدَّمَ، عَلى آثارِهِمْ: أَيْ آثَارِ الذُّرِّيَّةِ، بِرُسُلِنا: وَهُمُ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ الذُّرِّيَّةِ، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى: ذَكَرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ، وَلِانْتِشَارِ أُمَّتِهِ، وَنَسَبَهُ لِأُمِّهِ عَلَى الْعَادَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ:
الْأَنْجِيلَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهُوَ مِثَالٌ لَا نَظِيرَ لَهُ.
انْتَهَى، وَهِيَ لَفْظَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى أَبْنِيَةِ كَلِمِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْرُهُ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرِ الْبِرْطِيلِ، يَعْنِي أَنَّهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَأَعْجَمِيٌّ. وقرىء: رَآفَةً عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ، وَجَعَلْنا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَخَلَقْنَا، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ (?) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، فَيَكُونُ فِي قُلُوبِ: فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَرَهْبانِيَّةً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْجُمَلِ. ابْتَدَعُوها: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لرهبانية، وَخُصَّتِ الرَّهْبَانِيَّةُ بِالِابْتِدَاعِ، لِأَنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ فِي الْقَلْبِ لَا تَكَسُّبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا، بِخِلَافِ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَإِنَّهَا أَفْعَالُ بَدَنٍ مَعَ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ، فَفِيهَا مَوْضِعٌ لِلتَّكَسُّبِ. قَالَ قَتَادَةُ: الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ وَالرَّهْبَانِيَّةُ هُمُ ابْتَدَعُوهَا وَالرَّهْبَانِيَّةُ: رَفْضُ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ وَاتِّخَاذِ الصَّوَامِعِ. وَجَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَرَهْبانِيَّةً مُقْتَطَعَةً مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، فَانْتَصَبَ عِنْدَهُ وَرَهْبانِيَّةً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، أَيْ وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا. وَاتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَانْتِصَابُهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، يَعْنِي وَأَحْدَثُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَذَرُوهَا.
انْتَهَى، وَهَذَا إِعْرَابُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ مُعْتَزِلِيًّا. وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا لِلْعَبْدِ، فَالرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ مِنِ ابتداع الإنسان، فهي