الْعِلْمِ، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عُلُومُهُمْ مِنْ مَكَاسِبِ الدُّنْيَا، كَالْفِلَاحَةِ وَالصَّنَائِعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا (?) . وَلَمَّا ذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي، وَهُوَ مُجَازِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ:
اعْتِرَاضٌ. انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ فَأَعْرِضْ وَبَيْنَ إِنَّ رَبَّكَ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: صَغَّرَ رَأْيَهُمْ وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، أَيْ غَايَةُ عُقُولِهِمْ وَنِهَايَةُ عُلُومِهِمْ أَنْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّنِّ، أَيْ غَايَةُ مَا يَفْعَلُونَ أَنْ يَأْخُذُوا بِالظَّنِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ فِي مَعْرِضِ التَّسْلِيَةِ، إِذْ كَانَ مِنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحِرْصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مِلْكُهُ تَعَالَى، يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا بِمَا شَاءَ. وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ متعلقة بما دل عليه مَعْنَى الْمِلْكِ، أَيْ يُضِلُّ وَيَهْدِي لِيَجْزِيَ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: بِمَنْ ضَلَّ، وبِمَنِ اهْتَدى، وَاللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا لِلْجَزَاءِ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ بِعِقَابِ مَا عَمِلُوا، وَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بِالْأَعْمَالِ الْحُسْنَى، وَحِينَ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُسِيءِ قَالَ: بِمَا عَمِلُوا، وَحِينَ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ، وَتَدُلُّ عَلَى الْكَرَمِ وَالزِّيَادَةِ لِلْمُحْسِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (?) ، وَالْأَحْسَنُ تَأْنِيثُ الْحُسْنَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لنجزي ونحزي بِالنُّونِ فِيهِمَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَبَائِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ (?) فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَالْفَوَاحِشَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَبَائِرَ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْكَبَائِرِ، أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِتَدُلَّ عَلَى عِظَمِ مُرْتَكِبِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبَائِرُ:
الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَسْقُطُ عِقَابُهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. إِلَّا اللَّمَمَ:
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ، أَوْ صِفَةٌ إِلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ غَيْرِ اللَّمَمِ، كَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتا (?) . وَقِيلَ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَهَذَا يَظْهَرُ عِنْدَ تَفْسِيرِ اللَّمَمِ مَا هُوَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلَافًا، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْخَطْرَةُ مِنَ الذَّنْبِ. وقال أبو هريرة