وَابْتَدَأَ أَوَّلَ السُّورَةِ بِتَقْدِيمِ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْتَمِي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا، ثُمَّ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ التَّقْدِيمِ بِالنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْجَهْرِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ بِسَاطًا لِلثَّانِي، ثُمَّ يَلِي بِمَا هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَغَضُّوا أَصْوَاتَهُمْ دَلَالَةً عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ جِيءَ عَلَى عَقِبِهِ بِمَا هُوَ أَفْظَعُ، وَهُوَ الصِّيَاحُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ خَلْوَتِهِ بِبَعْضِ حَرَمِهِ مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ، كَمَا يُصَاحُ بِأَهْوَنِ النَّاسِ، لِيُلَبِّيَهُ عَلَى فَظَاعَةِ مَا جَسَرُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ عَنْ أَنْ يُجْهَرَ لَهُ بِالْقَوْلِ، كَانَ صَنِيعُ هَؤُلَاءِ مَعَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ الْمُتَفَاحِشِ.

وَمِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ تُقْتَبَسُ مَحَاسِنُ الْآدَابِ. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَثِقَةِ الرِّوَايَةِ مَا لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَالَ: مَا دَقَقْتُ بَابًا عَلَى عَالِمٍ قَطُّ حَتَّى يَخْرُجَ فِي وَقْتِ خُرُوجِهِ.

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّهُمْ صَبَرُوا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ ثَبَتَ صَبْرُهُمْ. انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، أَنَّ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، لَا فِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ. وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ صَبَرُوا، أَيْ لَكَانَ هُوَ، أَيِ صَبْرُهُمْ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي كَانَ، إِمَّا ضَمِيرُ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ بَعْدَ لَوِ. انْتَهَى، لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى ذَلِكَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الصَّبْرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَمَعْمُولِهَا خَيْرًا لَهُمْ فِي الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي انْبِسَاطِ نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَائِهِ لِحَوَائِجِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا فِي أَسَارَى، فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّصْفَ وَفَادَى عَلَى النِّصْفِ، وَلَوْ صَبَرُوا لَأَعْتَقَ الْجَمِيعَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ.

وَقِيلَ: لَكَانَ صَبْرُهُمْ أَحْسَنَ لِأَدَبِهِمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَنْ يَضِيقَ غُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ إِنْ تَابُوا وَأَنَابُوا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ الْآيَةَ،

حَدَّثَ الْحَارِثُ بْنُ ضِرَارٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمْتُ، وَإِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا، فَقُلْتُ: أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي وَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنْ أَجَابَنِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَتُرْسِلُ مَنْ يَأْتِيكَ بِمَا جَمَعْتُ. فَلَمَّا جَمَعَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْوَقْتُ الَّذِي أَرَادَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَبْعَثَ إِلَيْهِ، وَاحْتَبَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا إِلَى مَنْ يَقْبِضُ الزَّكَاةَ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْفُ، وَلَا أَرَى حَبْسَ الرَّسُولِ إِلَّا مِنْ سُخْطِهِ. فَانْطَلَقُوا بِهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السلام البعث بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ الْحَارِثِ، فَفَرَقَ، فَرَجَعَ فَقَالَ: مَنَعَنِي الْحَارِثُ الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي، فَضَرَبَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015