تَطَيَّرْتُمْ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ الْأَخِيرَةُ أَيْنَ فِيهَا ظَرْفُ أَدَاةِ الشَّرْطِ، حُذِفَ جَزَاؤُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ صَحِبَكُمْ طَائِرُكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ. وَمَنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكَانَ أَصْلُهُ: أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ فَطَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، فَلَمَّا قُدِّمَ حُذِفَتِ الْفَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُكِّرْتُمْ، بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْأَعْمَشُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِتَخْفِيفِهَا. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ: مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي ضَلَالِكُمْ، فَمَنْ ثَمَّ أَتَاكُمُ الشؤم.

وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى اسْمُهُ حَبِيبٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ. قِيلَ: وَهُوَ ابْنُ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ قَصَّارًا، وَقِيلَ: إِسْكَافًا، وَقِيلَ: كَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِهَذِهِ الصَّنَائِعِ. ومِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ: أَيْ مِنْ أَبْعَدِ مَوَاضِعِهَا. فَقِيلَ: كَانَ فِي خَارِجِ الْمَدِينَةِ يُعَانِي زَرْعًا لَهُ. وَقِيلَ:

كَانَ فِي غَارٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ. وَقِيلَ: كَانَ مَجْذُومًا، فَمَيَّزَ لَهُ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، عَبَدَ الْأَصْنَامَ سَبْعِينَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ ضُرِّهِ. فَلَمَّا دَعَاهُ الرُّسُلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ قَالَ: هَلْ مِنْ آيَةٍ؟ قَالُوا:

نَعَمْ، نَدْعُو رَبَّنَا الْقَادِرَ يُفَرِّجُ عَنْكَ مَا بِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَجِيبٌ! لِي سَبْعُونَ سَنَةً أَدْعُو هَذِهِ الْآلِهَةَ فَلَمْ تَسْتَطِعْ، يُفَرِّجُهُ رَبُّكُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَبُّنَا عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، وَهَذِهِ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ، فَآمَنَ. وَدَعَوْا رَبَّهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ مَا بِهِ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ.

فَأَقْبَلَ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَإِذَا مَشَى، تَصَدَّقَ بِكَسْبِهِ، نِصْفٌ لِعِيَالِهِ، وَنِصْفٌ يُطْعِمُهُ. فلماهم قَوْمُهُ بِقَتْلِ الرُّسُلِ جَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. وَحَبِيبٌ هَذَا مِمَّنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَهُمَا سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، كَمَا آمَنَ بِهِ تُبَّعٌ الْأَكْبَرُ، وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِنَبِيٍّ غَيْرِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: سُبَّاقُ الْأُمَمِ ثَلَاثَةٌ، لَمْ يَكْفُرُوا قَطُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَصَاحِبُ يس، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ.

وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ مَجْذُومًا، عَبَدَ الْأَصْنَامَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهُنَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَفِي الْقِصَصِ تَأَخَّرَ، وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ. رَجُلٌ يَسْعى: يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ. قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِيمَانِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ.

وَقِيلَ: جَاءَ عِيسَى وَسَمِعَ قَوْلَهُمْ وَفَهِمَهُ فِيمَا فَهِمَهُ. رُوِيَ أَنَّهُ تَعَقَّبَ أَمْرَهُمْ وَسَبَرَهُ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: أَتَطْلُبُونَ أَجْرًا عَلَى دَعْوَتِكُمْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، فَدَعَا عِنْدَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015