رُؤْبَةُ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّمُومِ بِالنَّهَارِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ كَمَا حَكَى الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ السَّمُومَ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ. وَيُقَالُ: الْحَرُورُ فِي حَرِّ اللَّيْلِ، وَفِي حَرِّ النَّهَارِ. انْتَهَى.
وَلَا يُرَدُّ عَلَى رُؤْبَةَ، لِأَنَّهُ مِنْهُ تُؤْخَذُ اللُّغَةُ، فَأَخْبَرَ عَنْ لُغَةِ قَوْمِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الظِّلُّ هُنَا: الْجَنَّةُ، وَالْحَرُورُ: جَهَنَّمُ، وَيَسْتَوِي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْتَفِي بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ. فَدُخُولُ لَا فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ لِقَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ (?) . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دُخُولُ لَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَيْئَةِ التَّكْرَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَلَا النُّورُ وَالظُّلُمَاتُ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَائِلِ عَنِ الثَّوَانِي، وَدَلَّ مَذْكُورُ الْكَلَامِ عَلَى مَتْرُوكِهِ. انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى اسْتِوَاءَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَقْدِيرِ نَفْيِ اسْتِوَائِهِمَا ثَانِيًا وَادِّعَاءِ مَحْذُوفَيْنِ؟ وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، فَتُؤَكِّدُ بلا مَعْنَى النَّفْيِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَقَرَأَ زَادَانُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: وَمَا تَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ، وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَنْفِيِّ عَنْهَا الِاسْتِوَاءُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ. وَذَكَرَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ الْبَصِيرُ. وَلَوْ كَانَ حَدِيدَ النَّظَرِ لَا يُبْصِرُ إِلَّا فِي ضَوْءٍ، فَذَكَرَ مَا هُوَ فِيهِ الْكَافِرُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَمَا هُوَ فِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَآلَهُمَا، وَهُوَ الظِّلُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ فِي ظِلٍّ وَرَاحَةٍ، وَالْكَافِرَ بِكُفْرِهِ فِي حَرٍّ وَتَعَبٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلًا آخَرَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَوْقَ حَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، إِذِ الْأَعْمَى قَدْ يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِي إِدْرَاكٍ مَا، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُدْرِكٍ إِدْرَاكًا نَافِعًا، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ، وَلِذَلِكَ أَعَادَ الْفِعْلَ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ مَقَامَ سُؤَالٍ، وَكَرَّرَ لَا فِيمَا ذَكَرَ لِتَأْكِيدِ الْمُنَافَاةِ. فَالظُّلُمَاتُ تُنَافِي النُّورَ وَتُضَادُهُ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ كَذَلِكَ، وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ بَصِيرًا. ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْعَمَى، فَلَا مُنَافَاةَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ. وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ دَائِمَةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظِّلِّ عَدَمُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَافَاةُ أَتَمَّ، أُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ. وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ، فَيَصِيرُ مَحَلًّا لِلْمَوْتِ. فَالْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا أَتَمُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي إِدْرَاكٍ مَا، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيُّ. وَالْمَيِّتُ يُخَالِفُ الْحَيَّ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا فِي الْوَصْفِ، عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقُدِّمَ الْأَشْرَفُ فِي مثلين، وهو الظل والحر وَأُخِّرَ فِي مَثَلَيْنِ، وَهُمَا الْبَصِيرُ وَالنُّورُ، وَلَا يُقَالُ لِأَجْلِ السَّجْعِ، لِأَنَّ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ فِيهِ. وَفِي الْمَعْنَى: وَالشَّاعِرُ قَدْ يُقَدِّمُ ويؤخر لأجل